مركز مشارق للبحوث والدراسات الفكرية المعاصرة اقام مؤتمر الغدير والعلوم الإنسانية في مجمع الامام الصادق الثقافي

مركز مشارق للبحوث والدراسات الفكرية المعاصرة اقام مؤتمر الغدير والعلوم الإنسانية في مجمع الامام الصادق الثقافي

بمناسبة عيد الغدير وبرعاية نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب اقام مركز مشارق للبحوث والدراسات الفكرية المعاصرة مؤتمر الغدير والعلوم الإنسانية (غديرية بيروت 2023) في مجمع الامام الصادق الثقافي ، حضره كل من السادة: الاب د. باسم الراعي ممثلاً غبطة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، الشيخ بلال الملا ممثلا سماحة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، الاستاذ نظام الحلبي ممثلا سماحة شيخ العقل الشيخ سامي ابي المنى ، ممثل سماحة الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الشيخ د. علي جابر، ممثل السفير الإيراني السيد مجتبى اماني المستشار السياسي السيد مهدي نبيوني، الوزير السابق د.طراد حمادة ، الخوري ناريك ليو نيجاريان ممثل الرئيس العام للمختاريين الأرمن، المستشار الثقافي الإيراني السيد كميل باقر زادة، الامين العام للمجلس الشيعي المحامي نزيه جمول، عضو المكتب السياسي لحركة امل د. احمد جمعة ،عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة الإسلامية في لبنان د. محمد عبد الله، د. لور ابي خليل ممثلة امين عام مجلس كنائس الشرق الأوسط الدكتور ميشال عبس، الشيخ علي سنان ممثلاً جمعية التعليم الديني، مدير العلاقات العامة في جمعية الارشاد والإصلاح خضر الأغا، وحشد من علماء الدين وشخصيات سياسية و اجتماعية وتربوية وقضائية وثقافية ومهتمون.
و قدم للحفل الدكتور عباس فتوني، وبعد تلاوة أي من الذكر الحكيم والنشيد الوطني اللبناني ، القى راعي الحفل العلامة الخطيب كلمة في جلسة الافتتاح عنوانها “فلسفة عيد الغدير بالنص والاهداف والوقائع” قال فيها: أسعد الله أيامكم بهذه المناسبة العظيمة مناسبة عيد الله الأكبر عيد الغدير حيث نزل الوحي على رسول الله (ص) يأمره بتبليغ ما أُنزل عليه بإعلان الولاية لعلي على المسلمين قائلاً: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ومن المعلوم أنها آخر ما نزل من آيات الوحي على رسول الله (ص) وأنَّ رسول الله (ص) امتثل لأمره تعالى وأخّر تبليغها الى غدير خم لأسباب معروفة، وهذه الواقعة مما أجمع المسلمون على حدوثها ومما ورد في خطبته فيها قوله (ص): “ألست أولى بكم من أنفسكم فأجابه الحاضرون: بلى يا رسول الله، فقال ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه كيفما دار.
لقد كان هذا إعلاناً عن الله سبحانه وتعالى بتنصيب علي أمير المؤمنين وليّاً على المسلمين بشكل رسمي أُكِّد بالبيعة له في خيمة أمر رسول الله بنصبها لهذا الغرض حيث نزل الوحي بالآية المباركة: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} امضاءً لبيعتهم وشهادة عليهم، وإن إكمال دينهم وإتمام النعمة عليهم إنما كان بهذه الولاية، وقد اتت هذه الواقعة بعد سلسلة من الوقائع التي عبّر فيها بنفس المضمون عن ولاية عليّ (ع) أنَّ هذا التعيين لعليّ (ع) كان ضرورياً كضرورة النبوة نفسها وهو ما تحتاجه الرسالة من الشرح والبيان، فمن دون عليٍّ لن يستطيع أحد أن يبيّنها للناس ويوضّح أسرارها ومقاصدها وكذلك في تطبيقاتها ليكون المشروع إلهياً تتوحّد الأمة حوله (أنا مدينة العلم وعلي بابها) كي لا يتحوّل الامر إلى مشاريع خاصة تعطّل أهداف الرسالة كما حدث فعلاً، فتحوّلت الرسالة الى أداة لهذه المشاريع تستخدمها لصالحها بعد أن كانت مشروعاً للأمة.
أولها: المشروع الاموي
ثانيها: المشروع العباسي
وغيرها ..
هذه المشاريع التي ظهرت كانت على حساب المشروع الالهي مشروع الإسلام اي مشروع الأمة، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}.
وقال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
وتعليق مشروع الأمة أدى إلى صراعات داخلية على السلطة انتهت إلى سقوط هذه المشاريع جميعاً أمام التطورات الدولية المتلاحقة التي لم تجد أمامها ما يصدّها ويمنعها من تحقيق أهدافها في السيطرة على العالمين العربي والإسلامي إلا ما اختزنته الأمة من معارف وقيم بقيت المراكز العلمية الدينية والحوزات العلمية تمدّها بها وتذكّرها بخصوصيتها.
كان زرع الكيان الصهيوني في فلسطين أحد أخطر المشاريع الرامية الى إنهاء اي أمل باستعادة الهوية الجامعة للأمة من أجل النهوض ودفنه الى الابد بالاستفادة مما أفرزته المشاريع الخاصة من انقسامات مذهبية طائفية عميقة وصراعات تاريخية استخدمتها كغطاء لمشروعيتها ولَعِبَ نفس الدور بتجديد إذكاء الصراعات بين هذه المذاهب التي أُخِذَت في هذا الاتجاه المحرقة من دون وعي او تبصُّر وحققت للعدو أهدافه دون أن يخسر شيئاً.
أيها الاخوة والاخوات، لقد كان واضحاً ان هذه النتائج الكارثية تسببت بها المشاريع الخاصة قبلية أولاً ثم مصالح أنظمة بعيدة عن مصالح الأمة التي هي رسالية أولاً وأخيراً أُخذ فيها الجانب القيمي الاخلاقي والانساني وتحقيق العدالة وكرامة الإنسان كهدف أعلى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} التي يعتبرها الإسلام القاعدة لبناء السلام الداخلي للفرد وللعام والاستقرار والبناء والتنمية (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، والعذاب هنا والله العالم هو العذاب الدنيوي و انعدام الأمن والاستقرار الذي تسببت به الحروب على خلفية الطغيان والاطماع وحب السيطرة والاستئثار.
فالقيم الاخلاقية هي الضابط للاستقرار وتحقيق الأمن والتنمية ومن دونها دعوة للفوضى التي تسببت بالحروب والكوارث التي أُصيب بها العالم منذ فجر التاريخ.
وكان أبرز وأهم الاهداف لرسالات الانبياء معالجة هذه الأسباب متوافقة مع الهدف الذي كان من أجله الخلق والوجود وهو التفسير المنطقي الوحيد للحياة والكون وإن كل ما عداها من تفسيرات أتت لتبرر للفوضى والحروب والطغيان.وإذا كانت الرسالة الاسلامية هي آخر الرسالات وتشكّل الامتداد الطبيعي لها فإن وظيفتها هي القيام بتعميق هذا التوجّه بما يتناسب مع طبيعة الظروف والاوضاع التي تواجهها البشرية، فالإسلام لم يكن رسالة يقتصر دورها على جزيرة العرب وما يعاني منه العرب يعاني منه العالم، فلا بدّ أن تكون لهذه الرسالة من نقطة انطلاق تتوفر لها الأجواء المناسبة وكانت مكة المكرمة في ظل الأوضاع العالمية وتقاسم النفوذ فيه بين إمبراطوريات ثلاث: البيزنطية والقيصرية الروسية والفارسية حيث لم تكن الارضية مهيئةً لتقبّل الرسالة الجديدة.
أما جزيرة العرب فقد كانت خارج السيطرة تخلو من سلطة مركزية تتنازعها وتتوزّعها مجموعة من القبائل يغزو بعضها بعضاً بعيدة عن الحضارة الإنسانية، وأفضل ما عّبِّر عنها كلام جعفر بن أبي طالب (رض) في جوابه لإمبراطور الحبشة الذي استفسره عما ادعاه وفد قريش لاسترداد من لجأ اليه من المسلمين قائلاً: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف»، «فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه».
أيها الاخوة والاخوات، ان الهدف الكبير القريب والمتوسط والبعيد لهذه الرسالة اقتضى التخطيط لها لتؤدي هذا الهدف بنجاح، وهذا يحتاج أولاً: للمكان المناسب للانطلاق. ثانياً: الى من يحمل ويقود هذه الرسالة لتحقيق أهدافها المرسومة لها إلهياً الذي يجب أن تكون له المواصفات المتناسبة مع طبيعة الرسالة من القدرة على استيعابها والقدرة على التعامل مع المراحل الزمنية وطبيعة المشكلات التي تواجهها وطبيعة المجتمع الذي تخاطبه والصعوبات الثقافية ونمط الروابط الاجتماعية والحياتية والتعامل معها وحلّها خصوصاً ان في الجزيرة العربية من سيقف بوجهه دفاعاً عن المصالح والمواقع الاجتماعية والاقتصادية التي كسبتها طبقات محدودة في هذه البيئة القبلية المعقّدة والاعراف التي انشأتها حماية لها والتي ستدافع عنها بشراسة وبلا هوادة.
ثالثاً: العمل على إيجاد الضمانات اللازمة لاستمرارها في مواجهة القوى الدولية المتمثلة بالإمبراطوريات الثلاث التي تشكّل خطراً كبيراً على الرسالة لأنها سترى فيها تهديداً كبيراً على وجودها حيث تشكّل مشروعاً متكاملاً على مستوى المفاهيم العامة وطبيعة النظام والدعوة إلى تحقيق العدالة ومواجهة الظلم.
وبالتالي فإن هذه المفاهيم لن تبقى حبيسة مكة أو جزيرة العرب بل ستلفت نظر سائر الشعوب والامم وستتأثر بها ومن الطبيعي أن يشهر قادة هذه القوى سيوفهم ويحرّكوا أياديهم للقضاء عليها بالإشاعات والتشويه والاتهامات وإثارة الشبهات وبالعمل المسلح، مما يعني شن حروب شاملة في وجهها إعلامية ثقافية وعسكرية، وهذه الحروب لن تكون قصيرة الأمد وستمتد في الزمن طويلاً، مما يفترض الحاجة لتأمين الحماية من جميع الجهات وحياة رسول الله (ص) لا تستوعب كل مراحل تطبيقها حتى يقال ان الرسالة في مأمن ويُرجع اليه عند الحاجة.
﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ﴾.
مع وضوح أن الأخطار القادمة من التحول عن أهداف الرسالة وعدم الانصياع إلى كلمة الحق والرسول ما زال بين ظهرانيهم، وقد تفرقت بعد ذلك أمته إلى فرق شتى، فهل من الصواب أن يقال بأن رسول الله (ص) كان نظره قاصراً عن رؤية هذه الأخطار فلم يحتط لها؟ وهل ان الله تعالى أساساً لم يأخذ لرسالته هذه الأبعاد فتركها رهناً للزمن والحظ؟ وهل يكون بذلك قد ألزم المسلمين الحجّة بتعريفهم بمن سيقود جمعهم في الزمن الصعب الآتي ويفسّر القرآن ويطبّق أحكامه حين تأتي مشكلات جديدة لم تتضح أحكامها وقد حدث هذا فعلاً مع أكثر من خليفة ومورد فاستعانوا بعلي (ع) لحل المعضلة، حتى قال الخليفة عمر: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وقوله: لولا علي لهلك عمر.
فإذا كانت بعض الأحكام البسيطة لم يعرفها بعض من استلم الحكم من الصحابة وهم قريبون من زمن النبوة فكيف يكون الامر في ما يأتي وقد طرأت مشكلات من نوع آخر أكثر تعقيداً بحكم تطور الزمن والمجتمعات، على أن ما قدمناه في البداية من التبدل في المشروع من مشروع الأمة إلى المشاريع القبلية والأنظمة الخاصة ما يكفي من الدلالة على الحاجة الملحة لاستمرار الرسالة وتحقيق أهدافها إلى من يشكّل استمراراً للرسول (ص)، وقد حصل هذا فعلا من رسول الله (ص) وصدر عنه غير مرة تصريحه بولاية علي (ع) منذ أن أُمِر بدعوة عشيرته الاقربين إلى حين إبلاغه بدنو أجله ودعوة المسلمين إلى الحج وسُمِّيَت بحجة الوداع، حيث أُمِر مرة أخرى وهو عائد في الطريق أن يبلغ ولاية علي للأمة وتنصيبه رسمياً في غدير خم اختار الله لها ظروفاً لا يمكن تفسيرها بحكمة الا أن يكون المعنى المقصود بالولاية محصوراً بالحكومة.
وبالخلاصة، فإن النصوص والمجريات والوقائع التاريخية وما أدت اليه والحكمة الالهية كل ذلك يحتّم الوصية لعلي بالولاية والحاكمية الذي اختبر الله بها الأمة فسقطت فيه، وهي اليوم تتحمل وزر تخليها عن هذه المسؤولية أمام الله تعالى.
وإذا كان المشروع الالهي مشروع الامة قد عُلّق لكن وحدة الامة لم تسقط وبقيت السقف الذي لا يجوز تجاوزه، وان الخلافات مهما بلغت يجب أن تبقى محكومة به وقد اُحكمت بوحدة الاصول الاعتقادية ووحدة العبادات من الصلاة والصوم والزكاة والحج الذي كانت الوحدة فيه أشد تجليّاً فمهما اختلفت آراؤهم وتعدّدت مذاهبهم فهم محكومون جميعاً بالاجتماع في وقت واحد في مكان واحد وفي زمان واحد يؤدون شعيرة واحدة في كل جزء من أجزاء الحج جنباً إلى جنب وقد مُنعوا من الجدال مقصدهم واحد.
يحكون أمر الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} في محضر مهيب يُظهر هيبتهم وقوتهم في وحدتهم للحفاظ على وجودهم ومصالحهم وكرامتهم أمام اعدائهم والطامعين فيهم والمتربصين لهم.
وقد كانت هذه المعالم التي تعبّر عن وحدتهم هي العاصم لهم في كل ما انتابهم من أخطار تجمع شملهم وتقوي شوكتهم رغم المحاولات المتكررة وبأشكال مختلفة من أجل ضربها وتخريبها على مدى زمني طويل.
لقد دعونا وندعو اليوم الأنظمة إلى عدم استخدام العامل المذهبي لمصالح خاصة بها الامر الذي يهدّد مصالح الأمة ووحدتها، والعمل بدلاً عن ذلك بوضع استراتيجية فيما بينها يفصل فيها بين المصالح الخاصة والمصالح الاستراتيجية التي تخل بوحدة الأمة ومصالحها عند تجاوزها.
ولقد مارس أمير المؤمنين (ع) هذا النوع من الفصل بين المصالح وكانت كلمته المشهورة: “لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين” وهذه الكلمة إلى جانب دلالتها على الفصل بين المصالح الخاصة والعامة وتقديم العامة الاستراتيجية تؤكد ان أمور المسلمين هي الاستراتيجية وفي أعلاها وحدتهم.
لذلك أؤكد في يوم ولاية أمير المؤمنين (ع) على المحافظة على المبدأ الذي أصَّلَ له تأكيداً للالتزام بوحدة الأمة كأمر إلهي ومبدأ قرآني في كل تعبير من تعبيراتنا وفعل مع افعالنا تجسيدا لولائنا لعلي (ع).

أجدد الدعاء أن يبارك الله للأمة عيد الله الأكبر، وأتمنى لكم التوفيق في أعمال هذا المؤتمر.

والقى رئيس مركز مشارق للبحوث والدراسات الفكرية المعاصرة الدكتور الشيخ محمد شقير كلمة قال فيها: إنّه لمن دواعي سرورنا أن نجتمع اليوم تحت عنوان “غديريّة بيروت 2023 م”، والّتي هي الغديرية الثّانية بعد الغديريّة الأولى في العام الماضي؛ حيث لا نبغي من هذا الانشغال تنشيط أي نوع من أنواع الجدل المذهبي في هذا السّياق، بل إنّ ما نريده هو الإفلات إلى ما تعنيه الغديريّة من مسار حضاري في التّاريخ وما يعنيه عليّ(ع) من مدرسة في القيم والأخلاق وبناء الإنسان، وهو القائل: «الإنسان بناء الله فويل لمن هدمه».
نحن نعاني بشكل أساس من معضلتين اثنتين: الأولى من خارج التجربة الدّينية والّتي ترتبط بمجمل الأيديولوجيا والمدارس الفكرية الّتي عادت الدّين وخاصمت أهله، والثّانية من داخل التّجربة الدّينية والّتي تتمثّل بمدى قدرة من يسعى إلى تبنّي القيم الدينية على محاكاتها بمعزل عن أيّ لَبسٍ أو مفارقة أو انحراف. هذا وقد رأينا تجارب تستند إلى الدّين، لكن نتائجها كانت هدّامة سواءٌ على المستوى الإسلامي أو المسيحي.
ومهمّتنا ههنا تكمن في موردين، الأول كيف نفهم الدّين بشكل صحيح، والثّاني كيف نتمثّله اجتماعيًا بما يعكس ذلك الفهم.
وكما تعلمون فإنّ الدّين فهمًا وممارسةً، يمكن أن يكون أحد العوامل المؤثّرة في بناء الإنسان والأوطان، كما يمكن أن يكون خلاف ذلك، وهو ما يُرتِّب مسؤوليات كبيرة خصوصًا على المرجعيات والمؤسّسات الدّينية الّتي يمكن أن تكون أقرب إلى الدّين وقيمه، فتلتقي على كلمةٍ سواء وطنية وغير وطنية، كما يمكن أن تكون أبعد فتنزلق إلى الطّائفية خطابًا وممارسةً باسم الدّين والطّائفة، مع كون الدّين في جوهره يتنافى والطّائفيّة، بما هي عصبيّة اجتماعية تتقنّع بالدّين شعارًا ودثارًا، لكنّها تتنافى مع قيمه ومع عقلانيتة الخلّاقة.
إنّ ما يمكن أن يقدّمه الدّين قد يرقى إلى أن يكون في طليعة العوامل المؤثّرة في معالجة ما نشهده وطنيًا من انسداد سياسي، بل وبنيوي في طبيعة النّظام والدّولة والاجتماع العام، إذ إنّ الطائفية المتغلغلة في النّفوس قبل النّصوص والممارسة، وبما تعنيه من ثقافة اجتماعية مسمومة ووعي موبوء، قد لا يقوى على مداواتها إلّا الدّين في وعيه الأصيل وجوهره المتعالي على الطوائف والطائفية، وخصوصًا عندما نعيد تعريف الدّين المتعالي على أنّه دين العدالة وليس فقط دين الإيمان، بل لنعي مقولة الإيمان على أنها إيمان بالعدالة كما هي إيمان بالغيب، حيث إن الهمّ الديني كان يغلب عليه الدفاع عن عدالة الله في مراقي السماء، واليوم ينبغي أن يغلب على هذا الهمّ الدفاع عن عدالة الإنسان على هذه البسيطة.
إنّ جوهر الدّين هو العدالة وفلسفة العدالة تكمن في الإنصاف، والإنصاف في الدرجة الأولى مقولة قيميةٌ أخلاقيةٌ تقتضي الخروج من “الأنا” بجميع تمظهراتها الشّخصية والجمعية. وإذا عدنا إلى النّصوص الدّينية المنبثقة من مدرسة عليّ(ع) نجد أنّها تفسّر الإنصاف بأن تحبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك وأن تكره لغيرك ما تكره لنفسك، وهو يتطلّب الخروج من هذه “الأنا”، واستواء النّظرة إلى الآخر مع هذه “الأنا”، إلّا ما كان التّفاضل فيه قيميًا ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ سورة الحجرات، الآية: 13.
بل قد نحتاج إلى إفشاء ثقافة الرّحمة وقيمها -وهي أرقى في فلسفتها من العدالة- في مدرسة عليّ(ع) -بل في الوعي الدّيني بأسره- حيث نشير إلى سلوكه(ع) مع قاتله -عبد الرحمن بن ملجم المرادي- إذ إنّه لمّا ضربه على رأسه بالسّيف اُغميَ عليه ساعةً طويلة، فلمّا أفاق ناوله ابنه الحسن(ع) قعبًا (قدحًا) من لبن فشرب منه قليلًا، ثمّ نحاه عن فيه، وقال: «احملوه إلى أسيركم»، ثمّ قال للحسن(ع) -حيث الملفت أنّه وهو على فراش الموت في آخر ساعات عمره أخذت وصاياه في قاتله مساحة من مجمل وصاياه لأهله ووُلده-: «بحقيّ عليك يا بني إلا ما طيّبتم مطعمه ومشربه، وارفقوا به إلى حين موتي، وتطعمه مِمّا تأكل، وتسقيه مِمّا تشرب، حتّى تكون أكرم منه».
إنّ أهمّية الانشغال على فلسفة العدالة هذه، أنّها تبصّرنا نوعًا من العدالة الحضارية في مقابل ما يشهده العالم من داروينية حضارية، حيث إنّ غاية لبنان الرّسالة، إنّما تتحقّق من خلال تقديم هذا النموذج في وطن الطّوائف.
إنّ جملة من التّحديات الّتي نعيش ينبغي أن تكون محور لقاء بين المؤسّسات الدّينية، سواءٌ ما يتّصل منها بالوطن الصّغير -أي الأسرة– أو بالوطن الكبير، حتّى يمكن أن يسجّل للأديان والطّوائف في لبنان أنّها نعمة هذا الوطن وثروته، في حين أنّ الطّائفية داؤه ونقمته.
لقد كان حرص مركز مشارق على الانشغال في جملة من تلك التّحديات الّتي تواجه مجتمعاتنا، حيث قامت الاستجابة على الوصل ما بين الدّين وفكره، والواقع ومتطلّباته والعلوم الإنسانية وأدواتها المنهجية، بما يشكّله هذا الانشغال من مغامرة علمية يمثّل مؤتمرنا هذا أي -مؤتمر الغدير والعلوم الإنسانية- نموذجًا لها.
نحن هنا لم نرد إقحام العلوم الإنسانية في محاور اشتباك كلامي ومعرفي جديد، وإنّما ندرك أنّ كثيرًا من الوقائع الدّينية والتّاريخية ما زالت بِكرًا على الصّناعة البحثيّة، وتحديدًا فيما يمكن أن تقوم به العلوم الإنسانية وأدواتها المنهجية من دور وأثر، حيث يُنتَظَر من تلك الأدوات أن تستحيل إلى معاول معرفية لاستكشاف النّص، واستنباش مدفونه، واستخراج مخبوئه، لا بمنهج الإسقاط المعرفي، وإنّما بمنهج الاستنطاق المنهجي، أي إنّ غاية ما تقوم به تلك الأدوات هو مسآلة النّص واستفزازه، لتدعه يخرج ما في جوفه، وينبئ عن مكنونه، وهي محاولة قد يشوبها بعض المعاثر، ولكن أمام خصوبة الحصاد يستحسن العمل.
إنّ ما كان يغلب على الهمّ البحثي سابقًا هو قراءة الغدير كنصٍّ أكثر من قراءته كواقعة، أمّا ما نبغي فعله ههنا، فهو قراءة الغدير كواقعة يكون النّص فيها أحد المتحدّثين، ولكن لا يكون جميعَهم.
إنّ ما كان معتمدًا سابقًا كان يفضي إلى نوعٍ من الاحتباس المنهجي في المناهج الّلغوية، أمّا اعتماد هذه المنهجية في البحث والمعالجة، إنّما يفضي إلى نوعٍ من التّنوع المنهجي الذي يؤدّي حكمًا إلى أكثر من غنى في الإنتاج العلمي ومجمل الخلاصات ذات الصّلة.إذ لن يكون أمرًا مجافيًا للصواب والجِدّة إقحامُ كلّ من فلسفة التّاريخ والاجتماع السّياسي والأنثروبولوجيا الدينية في جدلية الغدير ومعضلاتها.
وكمثال على ما أسلفت أشير إلى ما حصل يوم الواقعة من مراسم، بعضها يرتبط بالتّهنئة والبيعة، وبعضها يرتبط بما أَقدَمَ عليه النّبيّ(ص) في سياق خطبته، من إلباس عمامته المعروفة بـ”السّحاب” لابن عمّه عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، إذ ما الّذي يعنيه في الأنثروبولوجيّا الدّينيّة والسّياسيّة إلباس العمّة في ذاك المحفل المهيب؟ وما موقعيّة من ألبس العمّة ومنزلته؟ وما أهلّية من ألبس العمّة وفضائله؟ وما هو الموقف الحالي لذاك الحدث وسياقه؟ وما الّذي يعنيه ما جاء في بعض المصادر القديمة من أنّ العرب -يومها- كانوا إذا سوّدوا رجلًا عمّموه، وأنّ النّبيّ(ص) ما كان يولّي واليًا حتّى يعمّمه؟ وماذا عن دلالة النّص «مَنْ كُنْت مَوْلَاهُ فِعْلِيٌّ مَوْلاهُ» إذا تكاتفت مع دلالة الحدث ورمزيته الأنثروبولوجيّة؟
في ختام الكلمة نشكر: والشّكر أوّلًا وآخرًا لله تعالى على أن منّ علينا بموالاتنا لعليّ وآل النّبيَ(ص)، مدرسةً وقيمًا ونهج حياة.
وادار الجلسة الأولى الشيخ الدكتور محمد حجازي والثانية الأستاذ حسن قبلان و اللتين حملتا عنواني” انثروبولوجيا الغدير” و”الغدير في فلسفة التاريخ والاجتماعي السياسي” و تحدث فيهما الشيخ شقير عن انثروبولوجيا العمامة التي ترتبط بما حصل يوم الغدير من الباس النبي(ص) عمامته للأمام علي(ع) حيث يطرح السؤال عن دلالات هذا الحدث في تلك الواقعة وظروفها وسياقها التاريخي.
وراى الأب الراعي في كلمته ان انتربولوجيا المراسم والتهنئة في يوم الغدير تتعلق بحدث مفصلي في حياة الجماعة الإسلامية الناشئة، المهم في الامر موقف الامام علي من الحدث وكيف تعامل معه.
والقى الدكتور حبيب فياض مداخلة تهدف الى مقاربة موضوع الامامة على ضوء فلسفة التاريخ، من خلال دراسة الابعاد الكلية والعلية والغائية لواقعة الغدير، وما يترتب عليها من اكمال الدين واتمام التدين.

By haidar
No widgets found. Go to Widget page and add the widget in Offcanvas Sidebar Widget Area.