وجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة الى اللبنانيين بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج الآتي نصها:
الحمدُ للهِ الذي أسرى بعبدِه ليلاً من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى ، ثم عَرَجَ بهِ إلى السمواتِ العُلا والمَقَامِ الأسمى ، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِنا ونبيِّنا محمد ، صاحبِ الشفاعةِ العُظْمَى الذي تجلَّى عليه ربُّه بما لا يحصى ولا يُعَد من الآياتِ الكبرى ، وعلى آلهِ وأصحابِه وأتباعِهِ الذين آمنوا بمعجزةِ الإسراءِ والمعراج ، ولم تُصِبْهم فتنةٌ ، بل ازْدَادُوا إيماناً وهم يَسْتَبْشِرُون ، وبعد :
أيها المسلمون :
يُخبرُنا القرآنُ الكريمُ بِحَدَثِ الإسراءِ في مَطلَعِ السُّورةِ المسمَّاةِ باسمِه ، أي الإسراء ، والسُّورةُ مَكِّيَّة ، يقولُ المَوْلى تَعَالى في محكمِ تنزِيلِه : ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
وهذه الآيةُ الكريمةُ تقعُ في أصلِ الإسلام ، وهي تَتَضَمَّنُ أمرينِ اثنين :
الأوَّل: حُدوثُ الإسراءِ والمِعراج ، مُعجِزةٌ لِلنَّبيِّ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه.
والأمرُ الثاني: الارتباطُ بينَ المَسجِدِ الحرامِ والمَسجِدِ الأقصى المُبارك.
في الأمرِ الأوَّل : فإنَّ مُعجِزَةَ النّبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الكُبرى، هي القرآنُ الكريم ، لكنَّهُ عليه الصلاةُ والسَّلامُ لهُ مُعجِزاتٌ أُخرى بمَكَّةَ وَالمَدِينة ، قَبْلَ الهِجرةِ وَبَعْدَها ، تَثْبيتاً لِصِدقِه ، وَزِيادةً في إيمانِ النَّاسِ بِه ، وَإِكْمَالاً لِلرِّسالةِ التي بُعِثَ بها .
في الإسراء ، تَكَشَّفَتْ وَحْدَةُ الدِّينِ وَأُصولُ الرِّسالةِ ، وفي المِعراجِ شَهِدَ عليه الصلاةُ والسَّلامُ مَلَكُوتَ ربِّه ، وَفُرِضَتِ الصَّلواتُ الخَمس ، والصَّلاةُ عِمَادُ الدِّين ، قال تعالى : ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ .
والأمْرُ الآخَرُ : الذي تُحَدِّثُنَا عَنْهُ آيةُ الإسراء ، هُوَ الارْتِباطُ الوَثيقُ بَينَ أتْبَاعِ الرسل والــأنبياء الكرام، ومَا بَينَ مَكَّةَ وَالقُدس، قال تعالى : ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ .
لِذلِك ، وفي السَّنَواتِ الأُولى مِنَ الدَّعوةِ المُحمَّدِيَّة ، اُسْرِيَ بِرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ إلى بَيتِ المَقدِس ، على خَارِطَةِ النُّورِ والهداية ، تَقعُ المساجِدُ الثلاثة ، التي قال فيها صلواتُ الله وسلامُهُ عليه وَأَوصَانَا ، في الحَديثِ الصَّحِيح ، بالاسْتِمْرارِ في شَدِّ الرِّحَالِ إلى المَسْجِدِ الأَقصى عِندَمَا قال : (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِى هَذَا وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى)، وقد كان دأْبُ المُسلمين على مَدَى العُصور ، أنْ لا تَنْفَصِمَ عُرَى هذه العَلاقَةِ مَعَ القُدْسِ وَفِلِسطين ، الأرضِ المُبارَكَة، أرضِ الرِّسالات . وكما عَانتْ فِلِسطينُ ، وَعَانَتِ القُدْسُ مِنَ الاحْتِلالِ الصَّهيونيِّ عامَ 1948؛ فإنَّ فِلِسطينَ والقُدْسَ تُعانِيَانِ إلى اليومِ أشَدَّ المُعاناةِ مِنْ عَسْفِ الصَّهايِنَةِ وَنَزْعَتِهِمُ الإلغائيَّةِ لِلشَّعْبِ الفِلِسطينيّ ، وُجوداً ودِيناً وَمَساجِدَ وَكَنائس . فَمُنْذُ العامِ 1968 يُحاوِلُ الصَّهايِنَةُ هَدْمَ المَسْجِدِ الأقصى ، أو الاسْتيلاءَ عليه ، وَتَحوِيلَهُ إلى بَيتِ عِبادةٍ لهم ، وَمَنْعَ المُصلِّينَ مِنْ دُخولِه.
يقولُ اللهُ سُبحانَه وتعالى : ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبُرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِم. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الـمُقْسِطِين﴾ .
فعَلاقَةُ المُسلمينَ بِبَني البَشَرِ هي عَلاقَةُ بِرٍّ وَقِسْطٍ وَسَلامٍ باسْتِثْنَاءِ حالَتَين: إكْرَاهُهُمْ في دِينِهِم ، وإخْرَاجُهُم مِنْ أرْضِهِمْ وَدِيَارِهِم ، وكِلا الأمْرَينِ حَصَلَ وَيَحْصُلُ في القُدْسِ وفِلِسطين . ففي القُدْس، هُمْ يُريدون مَنْعَهُمْ مِنْ أداءِ شَعَائرِ دِينِهِم ، وقد هَجَّروا الملايينَ مِنْ أبناءِ الشَّعْبِ الفِلِسطينيّ، وَيُريدونَ إكْمَالَ المُهِمَّة ، بِحيثُ يَتَحَوَّلُ الفِلِسطينِيّونَ جَميعاً إلى شَعْبٍ مِنَ اللاجئينَ في جَنَباتِ الأرض، في المُخَيَّمَات، كَما سبَقَ أنْ حَصَلَ مَعَ الكَثيرينَ الكَثيرينَ مِنهُمْ مِنْ قَبْلُ مُنذُ الاحْتِلالِ الأوَّلِ لِفِلِسطين .يُذَكِّرُنَا حَدَثُ الإسْراءِ والمِعْراجِ بِقُربِ السَّماءِ مِنَ الأرض ، وقُربِ رحْمَةِ اللهِ مِنَّا. وقد قال سُبحَانَهُ وتَعَالى لِرَسُولِه الكَريم : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ .
وبمناسبةِ إِسراءِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إِلى المسجدِ الأقصى، أَدعو كُلَّ المؤمنين ِإلى التعاوُنِ والتضامُنِ مَعَ الفِلسطينيّين، ومَعَ العامِلين لإحقاقِ الحقّ ، مِنْ أَجلِ بقاءِ الدِّينِ واستِنْقاذِ الأرض .
أيُّهَا المسلمون، أَيُّهَا اللبنانيُّون، أَيُّهَا العَرَب :
ذكرى الإسراء والمعراج التي تحل علينا هذا العام ، حاملة بركاتها ومسراتها بحمد الله . في كل عام وفي ذكرى الإسراء وغيرها من المناسبات، كنا نتحدث في الهموم والآلام على لبنان وعلى العرب والمسلمين. وما انتهت الهموم ولا حروب الإبادة والاستضعاف . لكننا هذه المرة نحمل البشرى أيضاً . فقد توقفت النار على غزة الحبيبة وتوقفت قبلها النار الصهيونية على لبنان . و بعد طول انتظار جری انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بأكثرية كبيرة فرحنا لها جميعاً. وإلى ذلك قام مجلس النواب بإكمال واجباته في الاستشارات الملزمة فاختار بأكثرية معبرة رئيساً للحكومة التي يجري تشكيلها الآن . وكما انفرجت على غزة ولبنان، انفرجت أيضاً على الشقيقة سورية بسقوط بل إسقاط النظام الأسدي لأنه لا خالد إلا الله سبحانه وتعالى . هي أمارات وبشائر الخير التي تتوالى على لبنان وفلسطين وسورية بحول الله وتوفيقه.
فهل انتهت الآلام؟ ما انتهت بالطبع ، لكنها بدايات جديدة واعدة وواعدة جداً. ففخامة الرئيس عرفناه قائداً لجيشنا الوطني فحفظ وطوّر. وفي خطاب القسم وضع برنامجاً للتغيير يتصدى فيه لمعالجة كل المشكلات التي تراكمت لسنوات وسنوات كانت عجافاً وشكلت تهديداً لوطننا ومصائره. ومع الرئيس الجديد عاد العرب والعالم إلى لبنان مع تباشير الغد المشرق إن شاء الله للبنان وسورية وفلسطين.
أيُّهَا المسلمون، أَيُّهَا اللبنانيُّون :
لقد كنا نشكو من تأخير انتخاب رئيس للجمهورية، فلا نريد أن نشكو من جديد من تأخير تشكيل الحكومة، ولا ينبغي لأي فريق سياسي أن يعطل ويضع شروطاً ومطالب تؤخر عملية التشكيل ، بل عليه التسهيل والتعاون ، والتمسك بالدستور الذي هو الحكم والفيصل لتصحيح مسار الحكم في لبنان ، نريد أن نعود إلى منطق الدولة والمؤسسات الدستورية ، وحكومة فاعلة وعاملة لخدمة الناس تنهض بالوطن والمواطن .
لبنان لا يحكم إلا بالتزام مضمون وثيقة اتفاق الطائف التي وضعت بإرادة لبنانية ودعم عربي ودولي، وعلى القوى السياسية أن تحسم خيارها وقرارها ، وتخرج من عقلية المحاصّة، وأن نكون جميعاً حصة لبنان ، وعليها أيضاً التعالي وتغليب المصلحة الوطنية ، وتقديم التنازلات المتبادلة لا لهذا الفريق أو ذاك ، إنما للبنان ، لبناء الدولة ومؤسساتها الدستورية على أسس متينة ، والتي هي بحاجة إلى جميع أبنائها .
أيُّهَا المسلمون، أَيُّهَا اللبنانيُّون
مهمات ومسؤوليات كبرى تنتظرنا ؛ هي مسؤوليات العمل مع فخامة الرئيس على إنفاذ مشروعه الإصلاحي الكبير .
كل الوقت كانوا يحدثوننا عن فشل نظامنا وفشل دولتنا. إنما ما حصل بالأمس يبعث فينا روح لبنان الذي يأبى الاستكانة والخضوع والإخضاع ، نعم ، إنها كانت حروب الآخرين على أرض لبنان . ونحن موقنون أنه في كل مرة يتحرر فيها اللبنانيون من الضغوط فإنهم يقبلون على بعضهم ، قدرنا العيش المشترك والوحدة الوطنية في وطن الحرية والإبداع ، وما نزال نذكر شعارات الرئيس صائب سلام عم رئيس الحكومة المكلف الحالي: (لبنان واحد لا لبنانان) ، و (لا غالب ولا مغلوب) ، و(التفهم والتفاهم) ، ونذكر شعار الرئيس الشهيد رفيق الحريري: (قد يختلف اللبنانيون على الماضي ، لكنهم يجتمعون ويجمعون على المستقبل الحاضر على الدوام في أخلادهم وعزائمهم) ، علينا الالتفاف حول الدولة والدستور ووثيقة الوفاق الوطني ، للحفاظ على الاستقلال والسيادة ، لتكون لنا حياة وتكون حياة أفضل.
أيُّهَا المسلمون، أَيُّهَا اللبنانيُّون :
نحن مقبلون بعون الله على نهوض كبير ، لا يصنعه غير المخلصين والعادلين والأكفاء والرحماء ، في صفوفنا شهداء كثيرون ، ومصابون كثيرون ، والمطلوب والضروري التراحم والعدل والإحسان والإصلاح والمصالحة ، والدرس الأول في هذه المحن القديمة والجديدة أن نكون صناعاً للسلام ، وأن نتجنب بالدولة القوية وبالجيش الوطني وبالنظام السياسي المنفتح خوض حروب أو الانجرار إلى حروب.
ان عدم انسحاب العدو الصهيوني من الجنوب اللبناني هو خرق فاضح للقرار الدولي 1701 ويعرض لبنان إلى خطر عدواني جديد عليه في انتهاك سيادته واستباحة أراضيه، مما يتطلب من المجتمع الدولي الضغط على الكيان الصهيوني لتنفيذ القرار الدولي الذي يحفظ حق لبنان في أرضه، وما نشهده من عدوان صهيوني على الأهالي العائدين الى قراهم في الجنوب هو جريمة ويشكل تداعيات خطيرة تستوجب المعالجة الدولية الفورية لوضع حد لهذا العمل المشين بحق كل اللبنانيين.
وننوه بجهود الجيش اللبناني وقيادته بالانتشار على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة لعودة الأمن والسلام والطمأنينة الى جنوب لبنان بالتعاون مع قوات الأمم المتحدة الموكلة بهذا الامر.
أيُّهَا المسلمون، أَيُّهَا اللبنانيُّون :
في مناسبة الإسراء والمعراج، نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ .
صدق الله العظيم.
إنها روح الإصلاح والمصالحة التي يدعو إليها القرآن الكريم ، وهي الروح التي ينبغي أن تسود بيننا ونحن مقبلون على إعمار الدولة والوطن بدون غالب ومغلوب ، وبدون استكبار أو استضعاف .
تهانيَّ لكم بإسراء نبيكم ومعراجه ، كُلُّ ذِكرى إسراءٍ ومِعراج ، ولُبنانُ بخير ، وَالعَربُ بخَير ، وَفِلِسطِينُ إنْ شاءَ اللهُ على طريقِ الحُرِّيَّةِ والكَرامة .