يبدو أن حالة “النشوة” التي أصابت نتنياهو وحكومته إثر الضربات القاسية التي تلقاها حزب الله، دفعت مجلس الوزراء المصغّر (الكابينت) إلى اتخاذ قرار بالاقتحام البري لجنوب لبنان؛ لمحاولة فرض معادلات جديدة في الصراع مع الحزب، بل وربما في الحياة السياسية اللبنانية. غير أن المكاسب السريعة التي تحققت قد تتجاهل، في خضم حالة الاندفاع، عناصر فاعلة وصلبة في إدارة الصراع، قد تُجبر نتنياهو على دفع أثمان باهظة، والتّسبُّب في “فشل” جديد.
أهداف التصعيد الإسرائيلي:
يهدف الاحتلال الإسرائيلي من تصعيده ضد حزب الله وضد لبنان إلى:
1– إنشاء معادلة “تهجير مقابل تهجير”، من خلال تهجير مئات الآلاف من اللبنانيين، خصوصا الحاضنة الشعبية لحزب الله، في مقابل تسبُّب حزب الله بتهجير أكثر من مائة ألف مستوطن صهيوني في شمال فلسطين، نتيجة انخراط الحزب في العمل العسكري الداعم لمعركة طوفان الأقصى ولقطاع غزة. ويسعى الاحتلال الإسرائيلي لإيجاد بيئة ضاغطة على الحزب والدولة اللبنانية، تسمح بتحقيق معادلة “عودة مقابل عودة”، وهي معادلة لا تتم إلّا بوقف الحزب مشاركته العسكرية في الحرب، وبتوافقات يرضى عنها الجانب الإسرائيلي.
2– الاستفراد بقطاع غزة، وإخراج الحزب من معركة طوفان الأقصى، ووقف النزيف الصهيوني العسكري والأمني والاقتصادي والبشري في شمال فلسطين.
3– محاولة تحقيق مكاسب جديدة، فوق ما هو منصوص عليه في اتفاق 1701، مثل منع التواجد العسكري لحزب الله جنوب نهر الأوّلي، ونزع أسلحة الحزب، وفرض رقابة أشد (وبغطاء دولي) على الحزب وأنشطته، خصوصا العسكرية.
4– محاولة إضعاف الحزب وإلحاق خسائر كبيرة بكوادره وقواعده الشعبية، إلى درجة تُقلِّل من نفوذه ووزنه السياسي في الساحة اللبنانية، وتتيح الفرصة لفاعلين آخرين للتقدم لفرض معادلة سياسية جديدة، تُلبي بشكل أفضل المطالب والمعايير الإسرائيلية والأمريكية.
ويظهر أن حالة “الإغواء” التي وجد الاحتلال الإسرائيلي نفسه فيها، جعلته يمضي بعيدا في “أحلامه”، بينما تخرج العديد من التصريحات والتهديدات المتعجرفة من قيادات ورموز الاحتلال؛ في الوقت الذي استعاد فيه نتنياهو “نجوميته” في المجتمع الصهيوني، وتقدم هو وحزبه في استطلاعات الرأي بعد “الإنجازات” التي حققها في الجبهة اللبنانية.
سيناريوهات ومسارات محتملة:
يظهر أننا أمام أربعة مسارات محتملة للحرب الإسرائيلية على لبنان:
الأول: الغرق في المستنقع اللبناني: وهو يفترض اقتحاما بريا، وتدمير الكثير من البُنى التحتية اللبنانية، حتى لو أدى ذلك لدفع أثمان باهظة. وهذا السيناريو قائم على فرضية أن العقلية الإسرائيلية الحاكمة، بما حققت من “إنجازات” في الأسابيع الماضية، وبما شعرت من “نشوة”، وبسبب طبيعتها القومية الدينية وعجرفتها، ستسعى إلى تحقيق انتصار واضح على حزب الله، وستحاول فرض شروطها. وفي المقابل فإن حزب الله بطبيعته العقائدية، والاستعدادات القتالية لعشرات الآلاف من كوادره، وإمكاناته العسكرية القوية، وحاضنته الشعبية الكبيرة، مع إمكانية توفر دعم لوجيستي مستمر له، قادرٌ مع حلفائه على الاستمرار في الأداء الفعال، واستنزاف الاحتلال وإنهاكه.. وهو ما يعني أن الحرب قد تطول (كما في غزة) إلى أن ينسحب نتنياهو يجرُّ أذيال خيبته؛ أو إلى أن تُجبره قوى المعارضة الإسرائيلية على التنحي.
الثاني: استمرار حالة الاشتباك المحسوب: وتتضمن التراجع عن فكرة الاجتياح البرِّي، وخفض وتيرة الحرب أو تصعيدها أحيانا وفق الحسابات الميدانية، والاكتفاء باستغلال التّفوق الإسرائيلي في سلاح الطيران والمسيَّرات وفي الاستخبارات، مع منع عودة المهجَّرين؛ بينما سيواصل حزب الله ضربه للأهداف الإسرائيلية شمال فلسطين المحتلة وحتى وسطها. وهذا يعني “عض أصابع متبادلا” واستنزافا للطرفين، بانتظار رجحان كفة على أخرى، وبانتظار التطورات الميدانية في غزة.
الثالث: اجتياح برِّي إسرائيلي قوي: وتحقيق “انتصارات” على منوال ما تمَّ إنجازه من ضربات عسكرية وأمنية للحزب وقياداته وكوادره. وبالتالي السعي لفرض معادلات جديدة وتحقيق الأهداف التي أشرنا إليها أعلاه. وهذا هو السيناريو “الرغائبي” لدى نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، وهو يفترض أن الحزب قد تلقى ضربات قاسية حتى في مخازن أسلحته وبُناه التحتية، وأنه غير قادر على الصمود البرّي طويلا. وهذا السيناريو مُستبعَد، لأن المعطيات تشير إلى أداءٍ قويٍ للمقاومة في سحق كل محاولات اجتياز الحدود من قِبَل قوات الاحتلال، ولأن الحزب ما يزال يملك عشرات أضعاف ما كان يملكه سابقا، عندما أجبر الاحتلال على الاندحار من جنوب لبنان؛ ولأن الالتحام العسكري البري هو “اللعبة” الأفضل التي يجيدها الحزب بما يملك من إمكانات بشرية وعسكرية، ومعرفة ميدانية دقيقة بأرضه، التي جهزها تماما لهكذا أوضاع.
الرابع: حرب إقليمية: وهذا مسارٌ قائم على إدراك الجانب الإسرائيلي أنه لن يضمن أمنه مستقبلا إلا إذا تم “قصقصة” أجنحة إيران وحلفائها في المنطقة، وتم فرض “حالة تطبيعية” في البيئة الاستراتيجية المحيطة بالكيان الإسرائيلي، تضمن أمنه واستقراره. وهذا السيناريو يفترض وجود غطاء أمريكي، أو جرّ أمريكا للانخراط في المعركة إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي. وهو سيناريو ما زال مستبعدا في الوقت الحاضر، وإن كان الاحتلال الإسرائيلي “يلعب بالنار” بما قد يدفع باتجاهه، خصوصا في ضوء الحديث الإسرائيلي عن ضرب المشروع النووي الإيراني، وتوجيه ضربات عسكرية واقتصادية قاسية لإيران. غير أن إيران وحلفاءها لا يرغبون في حربٍ إقليمية؛ كما أن القوى الإقليمية وحتى الأمريكان وحلفاؤهم الغربيون لا يرغبون في “التورط” في هكذا حرب.. لا يمكن الاطمئنان إلى نهايتها ولا نتائجها.
خلاصات:
تبدو المسارات المتوقعة في الوقت الراهن متأرجحة بين السيناريوهين الأول والثاني، وربما سعى الاحتلال الإسرائيلي إلى المزج بين السيناريوهين من خلال “سلوك موجي” في تصعيد الوتيرة وتخفيضها، ومن خلال دخول برّي محدود ومحسوب للسيطرة على أماكن “رخوة” يمكنه بعد ذلك جعلها جزءا من عملية المساومة قبل وقف العدوان.
وبشكل عام، فإن الجيش الإسرائيلي المنهك والمستنزف والفاشل في تحقيق أهدافه في قطاع غزة بعد أكثر من 360 يوما على المعارك؛ هو أفشل من أن يوفر الإمكانات البشرية واللوجستية لاجتياح برّي من 80-120 ألف جندي؛ وهو أعجز عن السيطرة على مساحات في جنوب لبنان، هي أكبر بكثير من قطاع غزة، وبيئتها المقاومة جاهزة ومعدّة سلفا للتعامل بقوة وفعالية مع أي اجتياح ودحره.
ويبقى حزب الله حزبا عقائديا، له قاعدته الشعبية والتنظيمية والعسكرية الواسعة، وقد أوضح أنه ما زال يربط وقفه لضرباته الصاروخية بوقف العدوان على قطاع غزة، وهو قادر على الاستمرار في الحرب لآماد طويلة واستنزاف الاحتلال وإنهاكه، كما يستطيع توسيع دائرة استهدافه للمواقع الإسرائيلية ليضاعف من الخسائر الإسرائيلية ومن أعداد “المهجَّرين” الصهاينة. ثم إن البيئة العربية والدولية تعارض توسيع دائرة الحرب وتخشى انعكاساتها؛ وهو ما سيزيد عناصر الضغط على الاحتلال الإسرائيلي ويزيد عزلته.
وربما حاول نتنياهو أن “يُجرب حظّه” في تحقيق إنجاز حاسم ضد حزب الله، من خلال تحشيد إمكاناته، ولكن المؤشرات تقول إنه إن فعل، فسيتسارع استنزافه، وهو ما قد يُعجِّل بانهيار حكومته، بل وبتساقط النظريات والأوهام التي قام عليها الكيان.